لكاتب عزيز شراج
قراءة في رواية “رحلة بجواز سفر داغشي” للكاتب والباحث المغربي “عزيز سراج”.
الرّواية جنس أدبي وان عرفت تحولات عديدة مختلفة باختلاف البيئة والزمان والمكان والمجتمع بمستواه الثقافي والاقتصادي والمذهبي فإنها في الأغلب تغوص في قضايا الانسان كجزء من الكون يؤثّر في ما حوله ويتاثر بالمستجدّات والمتغيّرات التي مهما حاول الفرد تجنبها والابتعاد عنها فإنه ليس بمناى عن الأذى الذي سيلحقه منها آجلا أو عاجلا اي بالمشاركة في أحداثها ومعايشتها أو تلقي نتائج التحولات الممكنة كافقر والغنى والجهل والثقافة والحرب والسلم.
رواية في خمسة عشر فصلا .كل فصل يصدره المؤلف “القونة الاولى ..والثانية…”مع حكمة تتلاءم مع مضمون الفصل أو بيت شعر او مثل….لتكون البداية من انطلاق الثورة في تونس وحرق “البوعزيزي”نفسه وخروج الشباب المناداة برحيل بن علي.
“رحلة بجواز سفر داغشي” عنوان يضمن من المتلقّي معرفة ولو جزئية بمضمون الرواية وهي صور ومواقف تجمعت في ذهن المتلقي ليمضي بها كاليات أو مسلمات يختبر بها مدى صدقية الراوي في تناول هذا الحدث أو ذاك.لان المتلقي ثابت الوجود سلفا والتص رسالة بين باث ومتلقّ يتفقان في وسيلة التبليغ اي المستوى اللغوي الذي به سبمضيان في هذه العملية التبادلية التي يقودها الراوي ويتلقاها المتلقي المتسلح ببعض الصور والأطر التي نظمتها الذاكرة من محيط يشترك فيه مع الباثّ والأبطال أيضا. فهو إذن ليس خالي الذهن مما سينشره الكاتب من أحداث ورجات تأثيرية متوقعة لكنها ضبابية في ذهنه وهو ينتظر من الباثّ ولو نسبيا سدّ تلك الفجوات أو توضيح الغامض وفضح المستور الذي خفي عنه.وهنا يصبح أفق التوقعات عاليا محفوفا بالثقة التي تبادلها مع الباثً منذ الامساك بالرواية بنية القراءة.
_العنوان: وهو المحفز الأول والذي يتولى منذ اللحظة الأولى ترتيب المشروع ضمن منظومة معينة. والعنوان سيحدد مجال الأحداث ويصنف نوعيتها باحالات معجمية مفهومية واضحة المعالم.
“رحلة بجواز سفر داغشي” عنوان رتب كل ما سيرد في الرواية من أحداث أو شخوص وفق مخزون تجمّع لدى المتلقي كجزء من كل يعلم ما يعلمه السارد لكنه بهذا العنوان صار المتلقي يطمع في زيادة وتوضيحات تسد الفجوات التي جعلت الصور والاحداث الملتقطة من الواقع أو من وسائل الإعلام أو من الشخوص الذي سيجد لهم أمثلة في الرواية لتوضيح ما غمض واستبدال الشك باليقين.
رحلة .تعني السفر المحدّد بالمرّة. رحلة واحدة وقد اقترنت بتجارب أسلاف كجنس ادبي “ادب الرحلة” من ذالك “رحلة ابن بطوطة..أو ابن ماجة.وغيرهم ” .
هذه المرة ستبنى في ذهن المتلقي كحاضنة للأحداث المستقبلية .والامر عادي لكن الوسيلة “بجواز سفر داغشي” نسفت المعنى المتعارف عليه ماضيا وحاضرا “جواز السفر “هذا ايضا يجعل المتلقي يفكر في اتجاه قانونية الرحلة بجواز لكن النعت أو الوصف “داغشي ” أغرق الرواية في منظومة مرعبة يعرفها المتلقي وهي وفق توقعاته معلومة معروفة خاصة في الفترة الأخيرة وما شهده العالم من تخبط جراء هذه النسبة” وتأثيراتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
فالمتلقي وفي تواطؤ ضمني مع الباثّ قد حدد الدّائرة الافتراضية للتحرك وتبليغ المعنى وفي ذهنه صور الدواعش والتسفير والقتل والذبح والحرق .
الأحداث :
هي أحداث وان جاءت مرتّبة في الزمان والمكان في قص خطّي وغير خطي قام على الفلاش باك أو التذكر والاستباق جعل المتلقي وان امسك بخيط البداية والتي دفعت بالصور والوقائع إلى التهافت حول المتلقي وهو يستعد للقراءة وقد بات ينتظر توضيحات واضافات تو صّح الغامض وتؤكد المخزون المعرفي الحاصل لديه بالبحث عن النهاية التي أصبحت هي المبتغى .
أحداث سطرت بدقة وجرأة بدءا بالفقر والمعاناة النازفة التي تغرق فيها الأسر في الأحياء الشعبية في المغرب وتونس إذ يقول متحدثا عن توام انجبته حياة والعربي وهما بطلان في الرواية “وكان القدر يساهم في تعميق الأسية “رزقت بتوأم .لا ادري أأفرح ام ابكي .لا املك شيئا اليد قصيرة والعين بصيرة”
إذن فالسبب الاصلي لما سيتلاحق من أحداث كارثية سببه في المقام الأول الفقر والتهميش وضياع الشباب .
تبدأ الرحلة إلى تونس ومنها تتداعى المؤثٌرات رغم انفراج ظرفي جزئي بالحصول على عمل وتقاضي اجر لكن الوضع الاقليمي و العالمي سيكون له وقع الصواعق المدمرة ليضج الشباب بين الجنس والذي سيكون له حيز واسع في الرواية إما مباشرة أو عن بعد عبر السكايب يقول العربي “غدوت أمارس الجنس مع زوجتي في النور وليس في الظلام…عبر السكايب” البطالة والفقر والرغبة في تحسين الأوضاع لإعالة أسر منهكة وأولياء عجز هي السبب في “الرحلة”
لكن التصعيد في الأحداث خزنه المتلقي ليدبجه مع الكاتب لأن الوضع المعيشي ظاهر بيّن للجميع عبر الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي وحتى المعايشة .
أحداث لا يمكن أن تبرّئ الإنسان بقدر ما تدينه .فالعنصرية مازالت تشوه االعلاقات وتصنف الإنسان كاحط مخلوق في الكون إذ يهان اللاجئ ويضرب فقط لإنّه أسود الإنسان دون إنسانية والتي تعوض بالتحيل والكذب والاستغلال .
هذه الرذائل التي أفشلت الثورات وحادت بها عن مسارها وأهدافها ليكون البديل الحرقة إلى أوروبا أو السقوط بين مخالب داعش والذي وفق ترتيبات الكاتب قدر يتلقف الشباب نساء ورجالا لتجعل منهم عبيدا للأفكار المتطرفة الآثمة التي تحلّل الزنى وشرب الخمر والعنف والقتل والاجرام عامة .
الشخوص وعلاقتها بالمكان والزمان:
أربعة شبان مغاربة .يجمع بينهم الفقر والاحتياج .منهم المثقف السارد الاصلي للأحداث المؤطرة والذي سيفسح المجال لبقية الشخوص كي يرووا تجاربهم مباشرة للمتلقي . منهم الامي مثل العربي زوج حياة ووالد التوام الجائع. شخوص جعلت منهم الأقدار أبطالا مأساويين مهزومين يدفعون الصخرة إلى بر الأمان لكن دون جدوى .
الشخوص يمكن تقسيم ابطال الرواية حسب المكان .
شخصيات المغرب وهم الاصدقاء الأربعة وحياة ودنيا وحنان والأسر الام الاب الإخوة المشغل.. شخوص صورت معاناة الشباب من الفقر المدقع والبطالة والعجز. هذا الهم المشترك جعل منهم شخصيات مساعدة أما للأسر الفقيرة أو لبعضهم البعض فقر يدفع بالابطال إلى ممارسة الرذيلة مع حبيبات منعهم الفقر والحاجة من البناء والزواج ليصل الحد إلى الإجهاض “حنان” أو الحمل سفاحا “اخت العربي” تقول الام بكل جرأة محدثة العربي عن أخته”حبلت من الشارع .وجابته تربيه ….هاهي شافتك حشمت ودخلت… اعتقدت اني ساهاجمها…حاولت أن اكلمها بصوت حمّلته اقصى درجات رسائل الحب والاطمئنان” موقف يقوّض كل دعائم العرض والشرف التي يتباهى بها العربي والذي كاد يقتل أخاه في الماضي لانه يشرب الخمرة ….. يصبح الزنى والفجور من الأمور العادية .
أحداث عاشتها الشخوص في زوايا مختلفة لكن جمعها المكان المغرب كبلد النشأة ليسلم المشعل في جزء منها لتونس وليبيا…
شخصيات مساعدة ولو بمنطق الفائدة ومن منطلق قيمي أخلاقي شخصيات ارتبطت بالمغرب كمكان متجنً دفعهم إلى “رحلة”عادية للالنقاء في تونس للعمل و”الحرقة” لأن تونس بلد ساحلي يفتح على البحر الأبيض المتوسط في تعامد مع ايطاليا و”لمبدوزا”الشهيرة والتي لا يمكن للمتلقي أن يكون خالي الذهن منها ومما ارتبط بها من مآسي وصور تناقلتها وسائل الإعلام مرارا وتكرارا ليتدحرج المتلقي من الصدمة إلى التعود وقبول رؤية الجثث تتقاذفها الأمواج وتقذفها إلى اليابسة كادانة لانعدام العدل والتجني على الشباب المفقر . إلى هذا الحد يظل السارد في توافق ضمني مع المتلقي والذي سيرفع أفق توقعاته إلى الاستفهام “اين الجديد؟”
الحرقة جمعت الشخصيات في مدينة صفاقس كعنصر إثبات قائم الذات .مكان بفاعلية معلومة منها تنطلق زوارق الموت لقربها من لمبادوزا .هذا المكان سيوفر شخصيات من سجل العملية “صاحب المركبة.المنظم للرحلة .صاحب البيت . موظف الاستقبال في الفندق .المقهى”اماكن طبيعية اثثت مقومات الحدث وفق تنظيم رحلات الحرقة وما يصحبها من تزوير وغش ونهب واستغلال .والاهم والتي ستفتح وترفع من سقف توقعات المتلقي هي المقهى والفندق منها سيبدأ القارئ استيعاب “النعت”داغشي” بمقابلة طارق .والذي وان بدا الرحلة ورتب لها وفق صفقة قذرة .وان اختفى زمنا طويلا يتعدى الإثنتي عشرة سنة فإنه يظهر في الاخر كزعيم على قناة اجنبية، بوجه يصدم المتلقي ويفسر نوعية هؤلاء المجرمين .
المكان الذي سيحضن كل موبقات الدنيا ومفاسدها هو المخيم والوقوع في براثن الدواغش لتظهر شخصيات أخرى تبرر بل تؤثث للرحلة الأصلية والتي ستمتد أكثر من عشر سنوات . شخوصها جنود وحراس وملتحون ونساء يعاملن كبغايا مستسلمات يفرجن كرب الذكور دون مقابل وباهانة قصوى تتعدى حتى الحيوان .
مخيم اطنب الراوي في وصفه من الداخل والخارج سدا لثفرات ظلت ضبابية عند المتلقي لأن وسائل الاعلام لا تصل إليها ليكون الحضور للشورابي والقطاري .الشابان اللذان ضجت يصورهما القنوات الفضائية سنين طويلة وتابع المتلقي بكاء الام ولوعة الاب لاختفاء الصحفيين ليقبر معهما الإعلام الحر والثابت أنهما قتلا والسارد يؤكد على دقة التنظيم التي تفوق طاقة الفكر العربي ليبين أن المسألة تتعدى الشباب التكفيري الاسلامي إلى درجات أخرى تبرر ذلك بنهب الخيرات والثروات في ليبيا أو العراق أو أفغانستان أو سوريا.
ثم المكان الاخير والذي تغيرت فيه وجوه الشخوص فظهر المحقق الأجنبي الشرير المعرقل والمحقق الطيب المساعد مثل “أريك ملتفو” والذي سينتهي في مصحة نفسية لأن طيبته لا تتلاقى مع الإجرام والظلم. والمكان الذي مثل انفراجا مؤقتا في التصعيد المأساوي الحقل أو “مدينة أفلاطون” والتي مثلت الانفراج للعربي والسارد والتي كشفت عن مخططات الدول الاستعمارية لنهب خيرات ليبيا وغيرها من البلدان العربية الغنية بالثورات الطبيعية .ليصبح الإنسان عبدا للحيتان الكبيرة الهدامة دون اعتبار لخصوصياته وانتماءاته الفكرية أو العقائدية .
الشخوص إذن تواجدها في الرواية لصيق بتواجدها في المكان والذي مثل جزءا من التوثيق للرحلة ولكل من سار في رحلات الحرقة أو الإرهاب الداغشي.”مخيم بوشوشة. جرجيس نابل .صفاقس..” قوانتانامو”
الشخوص وان تحركوا في فترة زمنية معينة إبان اندلاع الثورة في تونس فقد ذكرت أحداث هي بمثابة الاوتاد التي تكون الوثيقة التامة المنطقية المعقولة “مقتل صدام ” في عيد الاضحى “مقتل القذافي” زمن اقتحام قنصلية امريكا وقتل القنصل” هي أحداث تجذر الرواية في فترة معينة ثابتة لدى المتلقي والسارد والعالم كله .لكن بعض الأزمنة جاءت من داخل المأساة والتي لم توثق زمنيا لكنها حاصلة وهي من مؤثثات الاضافة للمتلقي مثال “ليلة المجزة”
غير أن الزمن لم يتوقف بانتهاء الرواية بل تواصل استباقا إلى “سنة 2025..وكان التفاؤل غير ممكن بشواهد من الأوضاع الحالية في المغرب العربي الكبير أو افريقيا أو العالم كله
__تقنيات السرد المثرى بالوصف في الرواية .
جاء السرد بأفعال في صيغ الماضي المنقضي والاحداث المستمرة بالمضارع غير المنقضي وان اختار السارد تقنية الاسترجاع على لسان الابطال الرئيسيّين كتبرير لوضعهم في الحاضر وتعديد الأسباب التي دفعت بهم إلى الهجرة ثم التفكير في الحرقة ثم السقوط في براثن داغش .
السرد يتعطل في أحيان كثيرة ليفسح المجال للوصف الذي ينمي المسافة الجمالية عند المتلقي ويقدم له الصورة والحدث بدقة تتجاوز المرئي و المحسوس إلى النفسي والعاطفي .ولغاية تأثيرية. السارد ينقل المشهد وتاثيره على المواكب للحدث والمتلقي أيضا مثل وصف المجزرة”يصادفك راس كتف ساق جثة…الموت بالرصاص ارحم”ص 245.
_الحوار :الحوار المباشر جاء على لسان الشخصيات باللهجة المغربية أو التونسية .كل يتكلم بلهجة أهله ووطنه وفي ذلك تأكيد على الواقعية واقناعا للمتلقي بأن ما يبثه المؤلف حقيقة واقعية وليست مجرد تخيلات .مثال “اشنو غطيبي امي اليوم؟” …مغتسلميش علي..؟”
المونولوج تقنية بها استطاع السارد نقل معاناة الشخوص ماضيا وحاضرا ومستقبلا لأن الراوي عليم بالظاهر والباطن .والمونولوج هو الأكثر تأثيرا في المتلقي لأن السارد ينزاح جانبا ليصبح الجدال بين البطل والمتلقي الذي سيصتف الأحداث والأبطال وفق ماخزنته الذاكرة من حقائق تجعل البطل اقرب إلى التصديق لأن بعض ما يذكره عبر المونولوج هو بعض من كل ما يعرفه القارئ أيضا .
حوارات عمودية تنزل من المحقق إلى السجين بطرق تعسفية توجه الحوار إلى مآل معلوم وهو الإدانة واثبات التهمة .
حوارات أفقية بين الشخوص المشتركين في المعاناة بمتطلبات متشابهة المجال التعجب أو الاستغراب منها.
الخاتمة .رواية “عزيز سراج” الكاتب والباحث المغربي الذي يعيش في تونس ليكون مخضرما خبيرا بالمجتمع المغربي والتونسي على حد سواء ولا يفوته الامتيازات “كحصول المرأة في تونس على حقوقها …”
رواية عالجت قضايا ضجّ بها انسان القرن الحادي والعشرين من هتك أعراض وتحولات قيمية أخلاقية انحدارية جراء جشع الرؤوس الاستعمارية والتي إن شاءت هدم حضارة ما أو تشتيت وطن أو بلد آمن خربت شبابه وسمّمت أفكاره وشوهت طباعه لينقلب عدوا لدودا للإنسان والوطن قبل الاوطان الأخرى ليصير الفاس الذي به تهدم جدران العزة والكرامة والتي ليست بمناى عن الخراب من حكام متجبرين يفقرون شعوبهم ليبنوا ثروات طائلة تخزن في البنوك العالمية لتستثمرها في بناء مجد شعوبها “الغربية”وهتك اعراض الشعوب الفقيرة واستنزافها حد تفضيل الموت على الحياة .
رواية كتبت بكم من الوجع الذي أحدثه تنظيم دموي مضى يقتل ويهرب ويخرب عقول الشباب ليسقط في هوة الإرهاب الإثم ..
حبيبة المحرزي
تونس