تنشغل رواية «سدوم» للكاتب المغربي عبد الحميد شوقي بإشكالية الهوية، إذ نلمس فيها حرصا على النبش في كل ما يتعلق بتاريخ الشخصيات، والمنشأ العائلي والاسم والأصل، والعلاقة مع الأبوين والجسد، والمحيط والوضع الاجتماعي ومكان الميلاد، والتكوين واللقاءات المواقف الحاسمة، وغيرها مما يساهم في تكوين الشخصية، وهي كلها معايير لتحديد الهوية.
تحاول الشخصيات الرئيسية السبع لرواية «سدوم» أن تخرج الهوية من طابعها الموضوعي الإكراهي، إلى طابعها الذاتي عبر التحرر، الذي يتيحه لها اختيارها الفني، وأفعالها الموسومة بالتحرر، لتنتقل من وضع المنفعلة إلى وضع الفاعلة وسيدة مصيرها واختياراتها الواعية، إذ عرفت كل الشخصيات انتقالا من عالم إلى آخر، مع تسجيل هوة زمنية كبيرة بين العالمين، تعقبها عودة. لكن بعد أن تكون الذات قد اغتنت وتحررت، وتحولت من هاربة من عالمها الأول الكريه والضيق إلى باحثة عنه، وناظرة إليه بتصور جديد. يتعلق الأمر بنظرة تعود إلى ماضي الطفولة برؤية فنية متحررة تجعله مخصبا لاختياراتها الفنية.
عانت جل شخصيات رواية «سدوم» من إشكالية الهوية؛ «كاميليا» بين اعتقادها بأنها تنتمي إلى أسرة مسلمة متحررة وحداثية، وبين اكتشافها بأنها متبناة وهي من أبوين يهوديين، كمال وانتسابه إلى أمه بدل أبيه، آسلين ومشكلة الانتماء الأمازيغي، ميلاد وعدم انتسابه إلى الأب. كما أن الشخصيات تعيش مشكلة مع الاسم كأسلين التي رفضت اسمها الأمازيغي الكاهنة. ومع ذلك ستقوم الشخصيات بالتحرر من هذا الإكراه بتغيير أسمائها بإرادتها في الغالب، انسجاما مع تحررها الفني، الذي كان بالنسبة لها ميلادا جديدا وهوية جديدة، إذ يجعلها تتصالح مع ذواتها وتتفهم أخطاءها وأخطاء غيرها وجناياتهم الوجودية، وتتقبّلها وتكشف عن أعطاب المجتمع وتناقضاته، لتعلن تمردها عليه. وهكذا يصبح مصطفى الراهب، وعائشة تصير أسلين، وحليمة أحلام، وراشيل كاميليا، ونور الدين نوري. وهي تحولات تعكس التقابل بين ماضي الشخصيات وحاضرها، بين زمن الحرمان واللامبالاة والطيش والإكراهات الاجتماعية وضغوطاتها وكيف ساهمت في تكوين الذات المعطوبة، وبين حاضرها الموسوم بالتحرر الفكري والجسدي، أو تقابل بين جانب ظاهر وآخر خفي في الشخصيات، يتولى البوح، كاختيار سردي، على كشفه، وهذا الجانب الخفي مرتبط بتجربتها الماضية، ومـــــدى تأثيرها في هويتها الجــــديدة، والكشف أيضاً عن أعطــــابها واستنطاق الأماكن وإبراز أشكال التحول الذي طالها هي والشخصية.
تتكون الرواية من 21 فصلا تناوب على سردها سبعة فنانين، تولى كل واحد سرد ثلاثة فصول على هذا الترتيب؛
كاميليا فنانة تشكيلية، الفصل الأول والثامن والخامس عشر، سامية شاعرة الفصل الثاني والتاسع والسادس عشر، أحلام صحافية مهتمة بالفن، الفصل الثالث والعاشر والسابع عشر، أسلين ممثلة الفصل الرابع والحادي عشر والثامن عشر، الراهب روائي، الفصل الخامس والثاني عشر والتاسع عشر، ميلاد شاعر الفصل السادس والثالث عشر والعشرون، نوري مخرج سينمائي الفصل السابع والرابع عشر والواحد والعشرون.
تبوح الشخصيات لبعضها محاولة التخلص من أعباء سردية ثقيلة تفتح كوات إلى تجارب قاسية مطبوعة في ذاكرتها، كاشفة عن عيوبها وعما ساهم في تكوينها من خلال الكثير من الأفعال والقرارات والمواقف التي كان لها فعل تدميري بالنسبة لجل الشخصيات (سامية، ميلاد) وكذا النهاية المأساوية لبعض الشخصيات ووقعها في ذاكرة وهوية الساردين (جنون وانتحار عاشق سامية، قتل ميلاد لأمه العاهرة) كما تشترك في اكتشافها لسر يؤثر في كل مسار حياتها ويقلبها رأسا (كاكتشاف كاميليا لمذكرة والدها واكتشافها أنها تحمل في دمها عروقا يهودية).
يقود هذا التصدع كل الشخصيات إلى العودة إلى طفولتها وتحاول التصالح معها، عبر جعلها معينا بالنسبة لها على الإبداع. فتحاول كل شخصية استعادة ذلك الطفل الذي كانته، مسلطة الضوء على ظروف نشأته وتكونه (ميلاد أسلين، كاميليا، نوري) وانعكاسات وآثار ذلك على اهتماماتها الفنية الراهنة، لتؤكد الرواية أنهم فنانون قادمون من المأساة؛ فما عاشته الشخصيات في ماضيها كان له وقع كبير على شخصياتها، ظل محددا لذواتها وملتصقا بهوياتها، بل هو الذي حسم اختياراتها الفنية، إذ سعت جل الشخصيات إلى تحويل تجاربها الماضية القاسية الموشومة في ذاكراتها، التي تشكل مصدر أعطاب هوياتها الراسخة في وجدانها إلى عمل فني؛ كالراهب الذي حول جلال الذي كانت له علاقة مثلية معه في الطفولة إلى بطل لإحدى رواياته، النوري وعلاقته بالسينما وكيف قادته إلى استيحاء فيلم سينمائي من أماكن طفولته إلى فيلم، وكاميليا التي حولت إجهاضها إلى لوحة غير مكتملة، وسامية حولت علاقتها المفجعة مع حليم إلى شعر.
Reviews
There are no reviews yet.